(المقال الثانى) من الحداثه وما بعدها ومرتكزاتها ونتائجها ونتائجها
بقلم د/ طــــارق رضـــــــــــوان
للغة الحواربين الشرق والغرب، بين الوطن والاخر، على الضفه
الموازيه أداء خاص جمالا وعشق مميز وانفتاح على افق العلم والابداع. واذا
جاز لنا ان نحدد تاريخا موجزا وسريعا لمفهوم الحداثة، فيمكننا القول بان
المفهوم يعود الى بداية القرن التاسع عشر فقد ذكر هيغل بان الازمنة الحديثة
تخص ثلاثة قرون تمت فيها تحولات هامة وهي:-
1- اكتشاف العالم الجديد
2- عصر النهضة
3- عصر التنوير
هذه التحولات الكبرى، التي بدأت منذ القرن السادس عشر، شكلت عتبة
تاريخية هامة وانتقالا من القرون الوسطى الى الازمنة الحديثة، وهي دالة
على حقبة جديدة تشير الى ولادة عصر ومستقبل جديد.
ولا
يفوتنا أن نذكر تجربة الفنان كوربيه كمثال . هذا السيد الذي غير تاريخ الفن
- كوربيه يقدم نفسه و يقول( أنا الرومانسي حد الجنون) ويقول سيزان (أيدين
بالفضل إلى أبو الحداثة الحقيقي معلمي كوربيه فنان الثورة والشعب).
كوربيه هو هذا المبدع الذي نقل الفن من قصر فرساي ومن الطبقات البرجوازية
إلى الشعب . ونقل أولاد القرية والبسطاء من العامة إلى لوحة الحامل مخلدا
أهل قريته في أهم اعمالة أكبرها في الوقت الذي كان فيه رسامي فرساي ومنهم
انجر غارقون في تخليد الملك وزوجتة . وهنا أدركت جماهير الشعب انه منهم
يعبر عنهم وينحاز إليهم ويثور من أجلهم. مغامرة التحديث ومواجهة الرفض.
كانت هذه العبارات التي تعكس القلق الداخلي عند كوربيه وتؤكد علي
رغبة صادقة في التحول من رومانسي حالم إلى واقعي شديد الدراما، لذا وجدت
لجان قبول الأعمال في صالونات فرنسا الفرصة في رفض أعماله لأنها تختلف عن
السائد الموجود في سوق صالات العرض. ا لغريب هنا هو آمر النقاد الذين
انحازوا إلى الطبقة البرجوازية والمصالح الشخصية علي حساب الطرح الإبداعي
عند هذا المجدد سيد الضوء .ملك الظل والتقنيات. النقاد لم يدركوا أن كوربيه
يفتح عالما جديدا في طريق البحث والحداثة الإبداعية،وكتب أحدهم يقول: لا
بد آن يعود كوربيه إلى ما هو سائد حتى نصدر أحكاما عاد لة علي فنه شى مضحك
حقا لكنه يؤكد أن أحكام النقاد د غالبا ليست منحازة إلي العدل والمنطق . هل
يصدق أحد اليوم أن لوحات كوربيه كانت ترفض من الصالونات وليس من الجوائز ؟
3- مرتكزات مابعد الحداثة:
تستند مابعد الحداثة في الثقافة الغربية إلى مجموعة من المكونات
والمرتكزات الفكرية والذهنية والفنية والجمالية والأدبية والنقدية، ويمكن
حصرها في العناصر والمبادىء التالية:
• التقويض: تهدف نظرية مابعد
الحداثة إلى تقويض الفكر الغربي. بمعنى أن مابعد الحداثة قد تسلحت بمعاول
الهدم والتشريح لتعرية الخطابات الرسمية، وفضح الإيديولوجيات السائدة
المتآكلة، وذلك باستعمال لغة الاختلاف والتضاد والتناقض.
•
التشكيك: أهم ما تتميز به مابعد الحداثة هو التشكيك في المعارف اليقينية،
وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة. ومن
ثم، أصبح التشكيك آلية للطعن في الفلسفة الغربية المبنية على العقل والحضور
والدال الصوتي.
• الفلسفة العدمية: من يتأمل جوهر فلسفات مابعد
الحداثة، فإنه سيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض
العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات مابعد الحداثة هي
فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا
معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.
• التفكك
واللاانسجام: إذا كانت فلسفة الحداثة تبحث عن النظام والانسجام، وتهدف إلى
توحيد النصوص والخطابات، من أجل خلق الانسجام والتشاكل، فإن فلسفات مابعد
الحداثة هي ضد النظام والانسجام. وفي المقابل، تدعو إلى التعددية والاختلاف
واللانظام، وتفكيك ماهو منظم ومتعارف عليه .
• هيمنة الصورة: رافقت
ما بعد الحداثة تطور وسائل الإعلام، فأصبحت الصورة البصرية علامة سيميائية
تشهد على تطور مابعد الحداثة، ولم تعد اللغة هي المنظم الوحيد للحياة
الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الأساس للتحصيل المعرفي، وتعرف
الحقيقة. ولاغرو أن نجد جيل دولوز (Gilles Deleuze) يعنى بالصورة
السينمائية ، إذ يقسمها إلى الصورة - الإدراك ، والصورة – الانفعال ، و
الصورة – الفعل، ويعتبر العالم خداعا، كخداع السينما للزمان والمكان عن
طريق خداع الحواس، وذلك في كتابيه:"الصورة- الحركة" (1983م) و" الصورة-
الزمان" (1985م).
• الغرابة والغموض: تتميز مابعد الحداثة بالغرابة ،
والشذوذ، وغموض الآراء والأفكار والمواقف، فتفكيكية جاك ديريدا – مثلا-
مازالت مبهمة وغامضة، من الصعب فهمها واستيعابها، حتى إن مصطلح التفكيك
نفسه أثار كثيرا من النقاش والتأويلات المختلفة في حقول ثقافية متنوعة،
وخاصة في اليابان والولايات المتحدة الأمريكية. كما أن فلسفة جيل دولوز
معقدة وغامضة ، من الصعب بمكان تمثلها بكل سهولة.
• التناص: يعني
التناص استلهام نصوص الآخرين بطريقة واعية أو غير واعية. بمعنى أن أي نص
يتفاعل ويتداخل نصيا مع النصوص الأخرى امتصاصا وتقليدا وحوارا.
•
تفكيك المقولات المركزية الكبرى: استهدفت مابعد الحداثة تقويض المقولات
المركزية الغربية الكبرى كالدال والمدول، واللسان والكلام، والحضور
والغياب،إلى جانب انتقاد مفاهيم أخرى كالجوهر، والحقيقة، والعقل، والوجود،
والهوية...وذلك عن طريق التشريح، والتفكيك، والتقويض، والتشتيت،
والتأجيل...
• الانفتاح: إذاكانت البنيوية الحداثية قد آمنت بفلسفة
البنية والانغلاق الداخلي، وعدم الانفتاح على المعنى، والسياق الخارجي
والمرجعي، فإن ما بعد الحداثة قد اتخذت لنفسها الانفتاح وسيلة للتفاعل
والتفاهم والتعايش والتسامح. ويعد التناص آلية لهذا الانفتاح؛ ، كما أن
الاهتمام بالسياق الخارجي هو دليل آخر على هذا الانفتاح الإيجابي التعددي.
• قوة التحرر: تعمل فلسفات مابعد الحداثة على تحرير الإنسان من قهر
المؤسسات المالكة للخطاب والمعرفة والسلطة، وتحريره أيضا من أوهام
الإيديولوجيا والميثولوجيا البيضاء، وتحريره كذلك من فلسفة المركز، وتنويره
بفلسفات الهامش والعرضي واليومي والشعبي.
• إعادة الاعتبار للسياق
والنص الموازي:إذا كانت البنيوية والسيميائيات قد أقصت من حسابها السياق
الخارجي والمرجعي، وقتلت الإنسان والتاريخ والمجتمع، فإن فلسفات مابعد
الحداثة، قد أعادت الاعتبار للمؤلف والقارىء والإحالة والمرجع التاريخي
والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، كما هو حال نظرية التأويلية، وجمالية
التلقي، والمادية الثقافية، والنقد الثقافي، ونظرية مابعد الاستعمار،
والتاريخانية الجديدة...
• تحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية: إذا
كانت الشعرية البنيوية (الحداثه) تحترم الأجناس الأدبية، حيث تضع كل جنس
على حدة تصنيفا وتنويعا وتنميطا، فتحدد لها قواعدها وأدبيتها التجنيسية،
فإن ما بعد الحداثة لا تعترف بالحدود الأجناسية، فقد حطمت كل قواعد
التجنيس الأدبي، وسخرت من نظرية الأدب. ومن ثم، أصبحنا نتحدث اليوم عن
أعمال أو نصوص أو آثار غير محددة وغير معينة جنسيا.
• الدلالات
العائمة: تتميز نصوص وخطابات مابعد الحداثة عن سابقتها الحداثية بخاصية
الغموض والإبهام والالتباس. بمعنى أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات غير
محددة بدقة، وليس هناك مدلول واحد ، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة
ومتضادة ومشتتة تأجيلا وتقويضا وتفكيكا، كما في المنظور التفكيكي عند جاك
ديريدا. وبتعبير آخر، يغيب المعنى ، ويتشتت عبثا في كتابات مابعد الحداثة.
• مافوق الحقيقة: تنكر فلسفات مابعد الحداثة وجود حقيقة يقينية ثابتة،
فجان بودريار - مثلا - ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهما وخداعا، كما ذهب إلى
ذلك نيتشه (Neitsze) الذي ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة وأوهامها. بينما
يربط بودريار الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم
والتفخيم.
• التخلص من المعايير والقواعد: ما يعرف عن نظريات ما بعد
الحداثة في مجال النقد والأدب تخلصها من النظريات والقواعد المنهجية،
فميشيل فوكو يسخر من الذي ينطلق من منهجيات محددة يكررها دائما، ويحفظها عن
ظهر قلب، فيرى أن النص أو الخطاب متعدد الدلالات، يحتمل قراءات مختلفة
ومتنوعة، كما أن ديريدا يرفض أن تكون له منهجية نقدية أدبية في شكل وصفة
سحرية ناجحة لتحليل النص الأدبي؛حيث لا يوجد المعنى أصلا مادام مقوضا
ومفككا ومشتتا، فما هناك سوى المختلف من المعاني المتناقضة مع نفسها كما
يقول جاك ديريدا.
و هكذا ينتهي الفرد، والذي عاني من الاغتراب في
مرحلة الحداثة الرأسمالية الاحتكارية، فصاميا فاقدا للمصداقية والشعور
بالصدق، تائها بلا هدف وممزق الشخصية في عالم سطحي يدور حوله متخما بالصور
المعادة والجديدة، ومحروما من الوعي التاريخي والإدراك التفسيري الذي يؤدي
إلى تفسير الحالة الاجتماعية والثقافية الجمعية، لديه حنين قوي للماضي،
ولكن لا سبيل أمامه لاستعادته إلا بوصفه معارضة أدبية أو من خلال عبث
عشوائي. ويتم تقليب النصوص والعلوم من خلال أسلوب ارتجاعي تتضح مظاهره في
الموضة والأفلام الهوليودية.
لقد شكل الحنين إلى الماضي ومحاولات
استعادته عبر الإحياء الانتقائي لمجموعة عشوائية من الرموز والصور
والدلالات التي ترتبط به، أحد أهم مظاهر ما بعد الحداثة. أصبحت
النوستالجيا، أو نزعة الحنين إلى الماضي، من وسائل ما بعد الحداثة لتجاوز
الواقع وتحقيق أقصى قدر من الانفصال عنه (Detachment). اكتسبت المتاحف
والمتنزهات (Theme Parks) وظيفة جديدة في مجتمع ما بعد الحداثة، وتحولت إلى
أماكن لإعادة خلق صورة الماضي كواقع بديل (Substitute Reality). لقد تحولت
مناجم الفحم الضخمة في بريطانيا إلى أماكن يقصدها السائحون والزوار
للترفيه ولتجربة معايشة صور من الماضي تلاشت إلى الأبد. وتحول عمال مناجم
الفحم تلك إلى أدلاء سياحيين يرشدون الزوار حول أماكن عملهم السابقة
ويعرضون عليهم نمطا من الحياة اختفى من الواقع ولم يعد حاضرا إلا على شكل
محاكاة للماضي. انتفت الحاجة إلى المناجم، ولكن الدافع هنا هو نوع من
الحنين إلى الماضي. في مثل هذا المجتمع ما بعد الحداثي يدفع الناس النقود
ويبحثون عن التسلية من خلال استهلاك تجارب حياتية لم تعد موجودة في
المجتمعات المعاصرة بسب التحولات الاقتصادية والصناعية الكبيرة والمتسارعة.
بينما في الماضي القريب كانت هذه التجارب جزء حي وفاعل من تجربة الحياة
اليومية للفرد والمجتمع. أصبحت وتيرة التبدل والتغيير في نمط الحياة أكثر
تسارعا، ومعها أصبحت الذاكرة الجمعية أكثر عطبا وأقل قدرة على الاسترجاع.
لم يبقى من الواقع سوى فيض من الصور غير المترابطة.
ولزيادة الاضطلاع يمكنك عزيزى القارىء متابعة هذه الاعمال:
1- Habermas, Jurgen, Der Philosophische Diskurs der Moderne, Frankfurt, 1991,
2- Habermas,Jurgen, Tecknick und Wissenschaft als Ideologie, Suhrkamp,
Frankfurt, 1969. Horkheimer Und Aderno, Dialektik der
Aufklaerung,Frankfurt,196 -3 4- ابراهيم الحيدري ازمة
الحضارة الغربية- أزمة حداثة وما بعد الحداثة، في كتاب" الحضارة الانسانية
بين التصور الديني والنظريات الوضعية"، الجزء الأول، لندن 1994
5-
ابراهيم الحيدري، جدلية الحوار حول اطروحة ماكس فيبر"الاخلاق البرتستانتية
وروح الرأسمالية"، مجلة العلوم الاجتماعية، المجلد الثامن عشر، الكويت 1990
6- محمد الشيخ ويوسف الطائري، مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة، ( اعداد وتعريب)، بيروت 1996
7- آلان تورين، نقد الحداثة، (ترجمة)، بيروت 1997