جميل بن حسن
الموطن الصغير ..وطن كبير
----------------------------------
كنت فتى يافعا..لا تتعدى أحلامي حدود قريتي الجميلة،الجاثمة على السهل بين الجبل والغابة والبحر.. ولكنها صارت تصل إلى أكبر من ذلك،وأبعد.. لتتلاشى أمام السيل الجارف من المادة التي تبعتها كل النظرات والخطى..
وأعاود الكرة علي أصل إلى ذلك الحلم.. هي فترات قصيرة تعتلي هامة وقتي الضائع بين أحلام الطفولة وأوار الشباب المستعر..فأكابد بينهما مرارة التشتت والضياع، فترات تجذبني إلى ذروة احتدام الأمل واصطفاق اليأس.. فألتقي والسمو لنكون ثنائيا يسبر أغوار الواقع..
كانت حلمي، تلك القابعة خلف مدارات الكون..ألتحف أردية الصمت.. وأزاول السكون كيما يحس بي أحد.. كانت هي فضائي وضوئي المسلط على أفانين قلبي، وكنت أعلم أنني مهما تهت في معالم النهاية سأنثني رجوعا إليها ﻷرتوي من حضنها الدافئ..أمي..
أصارع الطير ، وأزاحم الشفق أينا يحتوي الأفق أولا في تألق جميل ينير وجه الكون بهدوء.. راقبت تألق الفجر.. وتعبت قدماي من ملاحقة الشمس.. شمس،هي حلم في طول السنة،مطلة على أعتاب أحزاني المترفة.. أسابق الخطوات وأصطدم والهواء في استماتة على الهدف، فيمتلأ الفؤاد مرحا والقهقهات تغطي الكون فيكشف عن عمق إحساس.. أقف على أعتاب قريتي وباتجاه الشمس، أنتظر أن تزاول مهنة النزول، لأستطيع الإلتحاق بها وإمساكها علني أحقق بعض ما أريد.. تجتاحني حيرة بالغة..وتوثب كاسح..إذا ما رأيتها أحاول جاهدا أن أصل إليها، إذ عانيت من احتدام الحلم وصولته.. ولما أصل إلى حدود قريتي يسبقني صوتها.. أمي:لا تتعد حدود القرية..فأعود أدراجي بنفس تزاحم الألم،تجذبها حنينية البر.
ويبدأ فجر جديد يعاتبني برقة، كأنما هو سحابة صيف يعيد إلى الذكرى تألق الربيع، فأنثني خجلا وأعتذر أني لن أعود..! وحينما يتسرب ضوء أشعتها في جو حميمي هادئ أتلقى الدفء من أرفع خيوطها فأستل من مكاني باندفاعية عجيبة.. وألحق بها..أحاول إمساكها بيدي.. فهي على امتداد الحقول الشاسعة، أركض باتجاهها، ويصطدم صوتها بأذني: لا تتعد حدود القرية..
ولما عقدت العزم، قررت اللاعودة، والسير قبل مسيرها نحو الزوال، لنصل سويا في موعد دقيق منتظر .. تسابقت والزمن،واتفقنا في غير موعد، ركضت لأصل إلى حدود القرية وصوتها مازال يرن في أذني..أرفع صوتي بالغناء كي لا أسمعها..ركضت وركضت، تنشقت الهواء في راحة و سرور..
أحسست وكأنني طائر يحلق في فضاءات الكون الرحبة ،
مستلذا باصطفاق جناحيه، وعشت حبور لذة لم يقطعها سوى ارتطام رجلي بأحجار الفضاء الرحب ، لأعاود الحلم..
مضيت وألف ابتسامة تتسابق إلى اجتثاث صمتي، وألف فرحة تحاول الظفر بتفكيري.. هاهي تتجه نحو الزوال.. ترى أيعقل الهبوط بعد التألق والسمو؟!
ركضت و ركضت ،تعبت رجلاي في بحث مستميت عنها، وهناك تساؤل يتصدر مخيلتي: هل وراء هذا القرص الجميل عالم أشد منه جمالا..؟
تنهدت تنهيدة طويلة ، امتدت امتداد شوقي للإمساك بها و عيناي تلتقط مناظر جميلة .. شجيرات مفعمة بأريج و شذى يسربل النفس بسعادة غامرة..
ركزت عيني على ذلك القرص ..تنفست بعمق.. وتابعت المسير باتجاهه.. وفجأة!، ودون ما إنذار، تعتم نظري، وهوت كل أحلامي في بئر اللانهاية المر..
لم أعد أرى شيئا، وصورة الكون الرائع والفضاء الرحب تضمحل إلى سواد مظلم..
سقطت على وجهي كمن يريد إنهاء الحلم ..حينها فقط تذكرت صوتها: لا تتعد حدود القرية..
وبدأت أنتحب، ماذا فعلت؟.. مشاهد الفرح تتهاوى.. مررت يدي أمام عيني ربما أراها، بلا فائدة..
وقفت أتلمس بقايا جسدي المتعب.. حاولت ضبط مساري والعودة أدراجي.. تعثرت و وقعت.. ألقيت وجهي ، ألثم التراب.
وجه أمي أكبر وأعظم من ذلك القرص.. تجلدت على أن أعاود المسير،وحينما عادت بي الذاكرة إلى واقعي أبصرت ما حولي، أبصرت يدي و رأيت طريقي.. طريقي القويم إلى قريتي...
صيف 2005